سورة يوسف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)}.
التفسير:
وما أن كشف يوسف لأخوته عن وجهه، وأراهم منه الصفح والمغفرة، حتى التفت بوجوده كلّه إلى أبيه الذي أضرّ به الحزن عليه، وعلاه الكبر، ومسّه الوهن والضعف!
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}!
قميص يوسف.. ما هو؟
وأي قميص هذا الذي أعطاه يوسف إخوته، ودعاهم إلى أن يلقوه على وجه أبيه، فيعيد إليه بصره الذي ذهب؟
تكثر الروايات، حول هذا القميص، حتى لتنسبه إحدى هذه الروايات إلى إبراهيم عليه السلام، وتحدّث بأنه كان قميصا جاء به جبريل من الجنة وألبسه إبراهيم حين ألقى به في النار، فلم تمسّه بسوء، وكانت بردا وسلاما عليه.. فجعل إبراهيم هذا القميص ميراثا في ذريته.. أعطاه إسحق، ثم أعطاه إسحق يعقوب، ثم ألبسه يعقوب يوسف، ثم ها هو ذا يدفع به يوسف إلى إخوته ليلقوه على وجه أبيه، فتتشكل منه معجزة تعيد إليه البصر المفقود! ويمكن أن يكون هذا، إذا كان مستنده كتاب اللّه، أو حديث رسول اللّه.
وأما وليس في القرآن الكريم، ولا حديث رسول اللّه الأمين، شاهد لهذا، فإنه من الخير أن يتخفف العقل من هذه الغيبيات القائمة على الرجم بالغيب، وأن يأخذ الأمور على ظاهرها المكشوفة له.
ومن جهة أخرى، فإن القرآن الكريم يحدّث عن القميص الذي كان يلبسه يوسف، حين خرج به إخوته ثم ألقوه في غيابة الجبّ- هذا القميص قد انتزعه منه إخوته، وجاءوا به إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد لطخوه بالدم مدّعين أن الذئب قد أكله، فكيف يكون مع يوسف القميص الذي يردّ في أصله إلى إبراهيم عليه السلام؟
فليكن القميص إذن واحدا من الأقمصة التي كان يلبسها يوسف، والتي علق بها بعض عرقه، فكان فيها ريحه.
أمّا كيف يجد يعقوب ريح يوسف في هذا القميص، على هذا المدى البعيد، الذي أحد طرفيه مصر، والطرف الآخر في الشام؟. فهذا السؤال يرد على أي قميص.. سواء أكان القميص الذي يقال إنه قميص إبراهيم أم أي قميص آخر غيره!.
والذي علينا أن نصدّقه هو أن يعقوب وجد ريح يوسف، وهو في مصر، ويعقوب في الشام!.
أما هذه الريح التي وجدها يعقوب، فهى إما أن تكون ريحا شمّها بأنفه على الحقيقة، كما تشمّ أرواح الأشياء، ذات الريح.. وإما أن تكون الريح هذه مشاعر وخواطر، مثّلت له يوسف قريبا منه، مقبلا إليه، أشبه بالطيف الزائر في المنام، أو الخاطر المسعد في أحلام اليقظة.. وذلك كلّه من ألطاف اللّه بيعقوب، ومن إشراقات النفس الصافية، وانطلاقات الروح من كثافة المادة، وقيود الجسد!.
ونحن في حياتنا اليومية كثيرا ما يقع لنا في أحلام اليقظة شيء مثل هذا أو قريب منه، فنتمثل شخصا لم نره منذ زمن بعيد، فإذا بنا بعد قليل نلتقى به! أو يرد على خاطرنا فيقع كما ورد!.. فكيف بنبىّ كريم من أنبياء اللّه في إشراق روحه، وصفاء نفسه؟
وأما كيف كان لهذا القميص أن يعيد إلى يعقوب بصره بمجرد أن ألقى عليه.. فلهذا أكثر من قول يقال هنا.
فلك أن تقول إنه آية من آيات اللّه، أجراها اللّه سبحانه وتعالى بين يدى نبيّين كريمين.. يعقوب ويوسف! أو قل هى معجزة جعلها اللّه سبحانه ليوسف- عليه السلام- وآذنه بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان يوسف: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً}.
فهو يعلم من اللّه، ما يحمل هذا القميص في طياته من أسرار أودعها اللّه فيه! ولك أن تقول: إن ذلك لم يكن أمرا معجزا، وإنه جاء جاريا على سنن الطبيعة ومألوف الحياة.. وأن الذي ذهب ببصر يعقوب هو شدة الحزن، وأن الذي أعاد إليه بصره الذاهب هو شدة الفرح..! وأن قول يوسف الذي أنبأ به عن ارتداد بصر أبيه إليه بعد أن يلقى القميص على وجهه- هذا القول هو لمحة كاشفة من لمحاته المشرقة، عرف بها تأويل هذا الأمر.. تماما كموقفه من تأويل الأحاديث والأحلام! {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ} فصلت العير: أي بدأت رحلتها، بعد أن شدّت رحالها، وأصل الفعل يدل على الانفصال عن الشيء.. ومنه الفصيل، وهو ابن الناقة، يفصل عنها بعد أن يستغنى عن لبنها.. ومن ذلك قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} أي حمله وفطامه.. والعير: الحمير.. وهى جمع، واحدها عير، مثل:
سقف وسقف، وأصل العير، عير على وزن فعل، مثل: سقف.. استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وسبقها ضمة، فقلبت الضمة كسرة، لتناسب الياء، فصارت العير، على وزن فعل، مثل حلم.
تفنّدون. أي تهزءون وتسخرون بي، وتنسبوننى إلى الخرف، والأفن وضعف الرأى.
{قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} لقد وقع ما كان يحذره، ولم يسلم من تفنيد المفنّدين، ولوم اللائمين، ممن سمعوا منه هذا القول، من أهله وجيرانه.. ولم يكن فيهم بنوه، الذين كانوا يومئذ ما زالوا في طريقهم إليه من مصر.
والمراد بالضلال القديم هنا، ما عرف منه من حبّ شديد ليوسف، وتعلق بالغ به، حتى لقد حسب هذا ضلالا عن طريق القصد والاعتدال في الحبّ.. وفى هذا يقول اللّه تعالى على لسان أبناء يعقوب: {إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
فإلى هذا الضلال يشير أولئك الذين قالوا له: {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} {فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} ولقد صدّق اللّه- سبحانه- ظنون يعقوب، فوقع ما توقعه، وجاء البشير بريح يوسف محمّلة في قميصه، فلما ألقى القميص على وجهه ارتدّ بصيرا، كما تنبأ بذلك يوسف.
وفى غمرة هذا الفرح الكبير، لم ينس يعقوب أن يردّ اعتباره عند هؤلاء الذين فنّدوه ورموه بالضلال.. فقال لائما مؤنبا: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}! أي إنّى كنت على رجاء من رحمة ربّى، وعلى طمع في فضله.. ولهذا لم أيأس من روحه، ولم ينقطع رجائى في فضله، وأن ألتقى بيوسف الذي حجبته الأقدار عنّى خلال هذا الزمن الطويل؟
وفى قوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} إشارة إلى ما سبق أن قاله لهم حين قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ} فكان ردّه عليهم: {إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.
{قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} هو نفس الموقف الذي وقفوه بين يدى يوسف، حين قالوا له: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ}.
إنه الاعتراف بالذنب، وطلب الصفح والمغفرة.
ولقد لقيهم يوسف بالصفح والمغفرة، من غير مهل ولا إبطاء، فقال:
{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أما أبوهم يعقوب، فإنه لم يلقهم بهذا الصفح وتلك المغفرة من فوره، بل جعل ذلك وعدا مستقبلا، يجىء على تراخ من الزمن.. {قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}.
ولم يقل سأستغفر لكم ربى! وقد أخذ بعض العلماء من هذا الاختلاف بين موقف يوسف من إخوته، وموقف أبيه يعقوب منهم- أخذ من هذا شاهدا على أن الشباب أسمح نفسا بما في أيديهم، من الشيوخ الذين يغلب عليهم الحرص على كل ما عندهم، ليكون لهم من ذلك قوة تمسك عليهم البقية الباقية من قواهم الواهية.
والذي نذهب إليه لتعليل هذا الاختلاف في الموقفين، أن يعقوب، في هذا الموقف أب، وهو بهذا يملك من أبنائه ما لا يملكه الأخ من إخوته.
إنه يملك التأنيب، والتأديب.. أما الأخ فلا يملك من إخوته هذا الذي يملكه منهم أبوهم.
ومن أجل هذا فقد استعمل يعقوب حقّه في تأنيب بنيه وتأديبهم، فأمسك عنهم صفحه ومغفرته، إلى حين، ولم ير من الحكمة أن يجيبهم إلى طلبهم في الحال. وأن يخلى مشاعرهم من القلق والهمّ. بل رأى أن يريهم أن هذا الطلب موضع نظره، وأنه سوف يحققه لهم في الوقت المناسب! وفى هذا ما فيه من درس بالغ في التربية والتأديب.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما *** فليقس أحيانا على من يرحم
أما يوسف، فهو في مواجهة إخوة له، وهم أكبر منه سنّا.. فلم يكن بدّ من أن يبادرهم بالصفح والمغفرة، بعد أن أخذ بحقّه منهم، وأجراهم هذا الشوط الطويل، حتى كادت تنقطع منهم الأنفاس، في غدوهم ورواحهم إلى مصر، وإتيانهم بأخيهم من أبيهم، ثم في هذا التدبير الذي جعل منه يوسف مدخلا لاتهام أخيه بالسرقة، وأخذه بما سرق، ووضع إخوته في هذا الموقف الحرج!


{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}.
التفسير:
آوى إليه أبويه: ضمهما إليه، وكان مأوى لهما.
نزغ الشيطان: أي أفسد الشيطان، والنزغ، والزيغ، بمعنى.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}.
هناك أحداث كثيرة طويت، ولم يجر لها ذكر هنا، إذ لم يكن لها أثر ظاهر في مضمون القصة.
وها نحن أولاء نرى يعقوب وبنيه في مصر، بعد أن كانوا منذ لحظة في أرض كنعان، نراهم في موقف استغفار واسترضاء من جهة، وموقف تأنيب وتأديب من جهة أخرى.
وها هو ذا يوسف يلقى أبويه وإخوته، ويضمهم إليه، ويفتح لهم الطريق إلى مصر وينزلهم فيها منزل الأمن والسلامة.. {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}.
ثم يرفع أبويه على العرش، ويدعوهم جميعا إلى مشاركته مجلس السلطان والحكم، فيدخلون عليه، ويؤدون له تحية الملك والسلطان، وينزلون على حكم العرف السائد في مصر، عند لقاء الملوك، فيخرّون له ساجدين.
وإذ يشهد يوسف هذا الموقف، تتمثل له في الحال رؤياه التي رآها في صغره، والتي عرضها على أبيه قائلا: {يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ}.
وهنا يقول يوسف لأبيه: {يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ.. قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا} أي قد تحققت كما رأيتها في المنام.
أمي، وأبى، وإخوتى الأحد عشر.. {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}.
{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}.
فمن إحسان اللّه إلى يوسف أن حقق له هذه الرؤيا، وأن أخرجه من السجن، وأن جمع بينه وبين أهله، فجاء بهم من البدو، وأنزلهم الحضر.
وفى قوله: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أحكم تدبير الأسباب الموصلة إليه، فجاء بها على غير ما يقدر العباد، ثم أراهم من عواقبها غير ما يتوقعون.
فمن كان يقع في تقديره أن تلك الأحداث التي بدأت بها قصة يوسف من إلقائه في الجب، إلى وقوعه في يد جماعة من التجار، إلى بيعه لرجل من مصر، إلى كيد امرأة العزيز له، وتآمرها مع جماعة النسوة عليه، إلى إلقائه في السجن بضع سنين- من كان يقع في تقديره أن هذه الأحداث ينسج من خيوطها عرش، ويصاغ من حصاها تاج، ويولد من تصارعها ملك يجلس على هذا العرش، ويتوّج بهذا التاج؟ إن ذلك لا يكون إلا من تدبير حكيم خبير، يمسك الأسباب بلطفه، فإذا هى طوع مشيئته، ورهن إرادته، فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويجعل من المكروه محبوبا، ومن المحبوب مكروها: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [216: البقرة]: {فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [19: النساء]- وفى قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} إشارة إلى أن لطف اللّه سبحانه وتعالى، وتدبيره المحكم لما يريد، إنما هو عن علم العليم، وحكمة الحكيم، لا يشاركه أحد في علمه وحكمته، فبعلمه المحيط بكل شىء، تتولد الأسباب والمسببات، وبحكمته البالغة، تقدّر الأمور، وتحكم في أسبابها.. وذلك هو اللطف في كماله وتمامه، فلا يقع شيء في ملك اللّه إلا كان اللطف سداه ولحمته!.
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ.. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
بهذه الابتهالات وتلك التسابيح، يستقبل يوسف هذه النعم التي أنعم اللّه بها عليه.. فيحدّث بنعمة ربّه، ويسبّحه بها، ويحمده عليها، ويستزيده من فضله، بأن يتم تلك النعمة عليه، وأن يتوفاه على دين الإسلام، وأن يلحقه بالصالحين من عباده.. فذلك هو الذي يجعل لتلك النعم مساغا في فمه، وطعما هنيئا في حياته!.
وإلى هنا تنتهى قصة يوسف التي كانت السورة كلها تقريبا معرضا لها، وحديثا عنها.
ويلاحظ أنّ قصّة يوسف على خلاف القصص القرآنى كلّه- جاءت في معرض واحد، لم يذكر معها غيرها من قصص الأنبياء، ولم تذكر هى في معرض آخر، ولم يجر عن يوسف حديث في غير هذه السورة، اللهم إلا أن يذكر اسمه مع جماعة الأنبياء، ذكرا لا يراد منه إلا تعداد أسمائهم، أو مجرد الإشارة إلى قصته، للعبرة والعظة!.
ولعلّ الحكمة في هذا هى أن هذه القصة تعتبر حدثا واحدا، هو رحلة عبر الزمن، للإنسان من مولده إلى مماته، وعلى طريق هذه الرحلة تقوم سدود، وتهبّ أعاصير، ولكن يد اللطف والقدرة تبلغ بهذا الإنسان مأمنه، وتخرجه من تلك التجربة التي عانى فيها الشدائد والأهوال- جوهرا صافيا، وإنسانا عظيما يمسك بكلتا يديه خير الدنيا والآخرة جميعا.
ولو أن هذه القصّة صنع بها ما في القصص القرآنى، فعرضت في أكثر من معرض لتمزقت وحدة الشخصية التي هى العمود الفقرى للقصة.
ومن جهة أخرى، فإن القصة وقد اصطبغت من أولها بلون الدم ثم كان ختامها الأمن والسلامة- فقد كان مما يتفق وتطلعات النفوس أن تجىء القصّة هكذا كيانا واحدا، يجمع بين بدئها وختامها.
ومع هذا، فلو جاء بها القرآن على نسق القصص القرآنية الأخرى، فعرضها في أكثر من معرض لما أخلّ ذلك بشىء من مقوماتها.. ولكن هكذا جاء بها القرآن، فكان ذلك شاهدا من شهوده الكثيرة على امتلاكه ناصية البيان، وتمكنه غاية التمكن من فنون القول! فيجىء بالقصة في معارض مختلفة، فإذا هى كيان واحد، وخلق سوىّ، ينبض بالحياة، ويفيض بالجمال والجلال.. ثم يجىء بالقصة في معرض واحد، فإذا هى مائدة تجمع شهى الطعام، وتؤلف بين مختلف الطعوم، فإذا الوارد عليها، والطاعم منها آخذ بحظه من كل طعام، متذوق من كل لون.. حتى إذا قارب حدّ الشبع وجد على لسانه حلاوة هذا الختام الذي انتهت به أحداث القصة.
فسبحان من هذا كلامه، و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً..}.


{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌمِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)}.
التفسير:
بدأت السورة بخطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم. بقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}.
ثم ما كاد النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- يفتح قلبه لتلقّى ما يوحى إليه من ربّه من قصص، حتى وجد نفسه مع قصة يوسف عليه السلام، فصغا بقلبه، وروحه إليها.
وفى نغم علوىّ، وبيان ربانىّ، جرت أحداث القصة، وترددت أصداؤها في كيان الرسول الكريم، وانسكب نميرها في وجدانه، قطرة قطرة، حتى إذا بلغت نهايتها، كان قد ارتوى، وانتعش، ووجد برد الراحة في هذه الواحة الظليلة التي يستروح فيها أرواح العافية، بعد أن أضناه السير، وأضرت به لفحات السّموم، التي تهب عليه من المشركين، من سفهاء قريش وحمقاها! ففى أفياء هذه الواحة الظليلة، وعلى خطوات هذه الرحلة الطويلة يستعرض الرسول الكريم ما يجرى بينه وبين قومه وأهله، وما يكيدون له من كيد، وما يرمونه من ضرّ، لا لشىء إلّا لأنه يدعوهم إلى الخير، ويمدّ إليهم يده بالهدى- فيرى أن أخا له من أنبياء اللّه، قد كيد له هذا الكيد العظيم، من إخوته، وطرح به في مطارح الهلاك، بيد أبناء أبيه، فلطف اللّه به ونجّاه من تلك الكروب، ثم مكّن له في الأرض، وبسط يده وسلطانه على هؤلاء الذين مكروا به، وكادوا له! وتلك هى عاقبة الصّابرين المتقين! فليهنأ النبىّ الكريم إذن ولينظر ما يفتح اللّه له من رحمة، وما يسوق إليه من فضل.. فإن العاقبة له، والخزي والخذلان على الكافرين! وإنه ما يكاد الرسول الكريم يمسك بأطراف هذه القصة، ويردّد النظر فيها، حتى يجد الرفيق الذي يصحبه، ويقيم نظره على تلك القصّة، ويشير له إلى مواقع العبرة والعظة منها.. وإذا كلمات اللّه تلقاه بهذا الخطاب الذي يلفته إلى ذاته، ويذكّره بأن ذلك الحديث كلّه إنما هو حديث إليه، ومناجاة له من ربّه، يجد فيها ريح العافية، وبرد العزاء.
{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}.
فهذا الذي سمعته أيها النبىّ من قصة يوسف، هو من أنباء الغيب، التي أوحى اللّه بها إليك، ليثبّت بها فؤادك، ويربط بها على قلبك!- {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.
أي أن النبىّ الكريم لم يكن بمشهد من هذه الأحداث، حتى يعلمها، ولم يكن يتلو كتابا من قبل، حتى يقع عليها: {ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا} [49: هود].
والذين أجمعوا أمرهم، وهم يمكرون، هم إخوة يوسف، الذين قالوا:
{لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ}.
فهذا ما أجمعوا أمرهم عليه، وهذا هو مكرهم الذي مكروه.. ولم يكن النبىّ بمشهد من هذا.
{وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له لما يلقى من قومه من كيد ومكر.. فهكذا النّاس، يغلب شرّهم خيرهم، ويطغى سفهاؤهم وجهالهم على العقلاء والراشدين فيهم.. وإنه مهما حرص النبىّ على هداية الناس، ومهما اجتهد في طلبهم إليه، وشدّهم نحوه فإن أكثرهم على خلاف وإباء!.
فإذا كان في بيت النبوة وفى سلالات الأنبياء، ينبت مثل هذا الشرّ، ويقع مثل هذا الذي وقع بين يوسف وإخوته- فليس بالمستغرب، ولا من غير المتوقع أن يرى النبىّ في أهله، وقومه، من يكيدون له، ويبغون الشرّ به!
{وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} هو تقريع، وتسفيه، لهؤلاء الحمقى السّفهاء الذين يتنكرون لحملة الهدى إليهم، ودعاة الخير فيهم، وهم لم يطلبوا منهم على ذلك أجرا، ولا يريدون جزاء ولا شكورا.
فلو أن النبىّ الكريم، كان يطلب من قومه أجرا على هذا الذي يقدّمه لهم من خير، لكان لهم وجه في ردّه والتأبى عليه، وإن كان الذي بين يديه لا يستكثر عليه أي أجر وإن غلا، وأي ثمن وإن عظم.. ولكنه، إذ كان ولا شيء من متاع هذه الدنيا يوفّى ثمنه، أو يؤدى أجره، فقد جعله اللّه سبحانه- فضلا منه وكرما- رحمة مهداة إلى عباده.. وهل يقدّر لضوء الشمس ثمن؟ أو للروح التي تلبس الأجساد قيمة؟ ذاك من هذا سواء بسواء! {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ}.
وليست هذه الآيات البينات التي يطلع بها الرسول على قومه، ويؤذّن بها فيهم- ليست إلا بعض آيات اللّه الكثيرة المبثوثة في هذا الوجود.. فما أكثر تلك الآيات التي بين يدى النّاس، وتحت أبصارهم، لو أنهم نظروا في هذا الوجود، وفتحوا عقولهم وقلوبهم له.
وإن العاقل ليهتدى إلى اللّه، ويتعرف إليه، من غير أن يدلّه على ذلك دليل، أو يرشده مرشد، لو أنه أحسن توجيه أجهزته التي أودعها اللّه فيه، على هذا الوجود الذي حوله، بل على نفسه ذاتها.. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [21: الذاريات].. {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ} [5- 7: الطارق].
ولكن- مع هذا ومع ما يعلم اللّه سبحانه وتعالى من غفلة النّاس عن تلك الآيات الكونية- فإنه- سبحانه- قد بعث فيهم من أنفسهم هداة يهدونهم إلى الحق، ويكشفون لهم معالم الطريق إلى اللّه، من غير أجر.
فمكروا بآيات اللّه، وكذبوا رسله.. {إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [34: إبراهيم].
{وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ..}.
وهذا صنف آخر من الناس.. فإنه إذا كان أكثر الناس لا يؤمنون باللّه، ولا يستجيبون لدعوة الداعي الذي يدعوهم إليه، فإن كثيرا منهم كذلك يؤمنون باللّه، ولكنهم لا يخلصون إيمانهم له، ولا يقيمون هذا الإيمان على وجهه الصحيح.. فهم مؤمنون، وغير مؤمنين.. يؤمنون باللّه، وبغير اللّه، فيجعلون مع اللّه آلهة أخرى، أو شفعاء يتقربون بهم إليه، مثل مشركى قريش، الذين يقولون عن أصنامهم التي يعبدونها: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر].. فهذا شرك باللّه، لا يصح معه إيمان مؤمن.
{أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
الغاشية: هى التي تهجم على الناس، وتشتمل عليهم، ولا تستعمل إلا في مقام الضرّ والأذى.
البغتة: المباغتة والمفاجئة.
والمعنى، أفيأمن هؤلاء المشركون من قريش، الذين كذبوا رسول اللّه، وآذوه- أفيأمنون أن يأخذهم اللّه ببأسه، وأن تغشاهم سحابة من عذابه، فتهلكهم كما أهلكت الظالمين قبلهم؟ وإذا أمنوا هذا، أفيأمنون أن تأتيهم الساعة فجأة، وهم غافلون عنها، لم يعملوا حسابا لها؟.
ماذا يكون موقفهم يومئذ؟ وهل يلقون إلا الخزي والهوان، والعذاب الأليم؟.
والاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على هؤلاء المشركين، موقفهم هذا، الذين بعدوا به عن طريق الهدى، وركبوا فيه طريق الضلال، فهم- وهذه حالهم- في معرض الهلاك في الدنيا، بنقمة من نقم اللّه تأخذهم بغتة، فإن لم يعجل لهم اللّه البلاء في الدنيا ضاعف لهم العذاب في الآخرة، {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7